الاثنين، فبراير 13، 2012

لقمة العيش

نظر إلى الأفق وهو يركب السيارة المستأجرة السبع ركاب وكان يركب بمقعديها اللذان فىالخلف وأمامه أمه وبجانب السائق خاله. كانوا مسافرين من بلدتهم الصغيرة إلى مطار القاهرة ليستقبلوا أباه فى إجازته السنوية من عمله بإحدى الدول العربية الخليجية. لم يعرف ساعتها لماذا يضطر والده لتركهم والسفر وإذا سأل قالوا له "عشان لقمة العيش" فكان يندهش جدا ويجرى لحاوية أرغفة العيش ويرجع به لوالديه قائلا:"أهو يا بابا رغيف عيش كامل بس ماتسافرش" وكانوا يضحكون . . .
اليوم الأب عائد فى إجازة سريعة لمدة اسبوعين. ولكن ابنه لم يستوحش ذلك القدر من غيبة أبيه فالطفولة تجعل الأمور أكثر إيجابية وتمضى الأيام فيها لذيذة سريعة كرحلة الطائرة. يتذكر الإبن أفلاما عربية يستقبل الأبناء والديهم فى المطارات ويعانقونهم عناقا شديدا. ينبغى عليه أن يعانق أباه الآن مثل هدا العناق وإلا قد يحزن ذلك أبوه. استغرقته الأفكار فنام مستلقيا بالسيارة لأنه يجلس بالمقعد الخلفى بمفرده.
ويبدو أنهم وصلوا المطار وانتظروا وحضر الأب للسيارة وكان الإبن مازال نائما. فأيقظوه:"بابا جه يا حبيبى" فاستيقظ ليفتح عينه ليجد أباه واقفا أمامه مبتسما فاردا ذراعيه ليعانقه ذلك العناق الشهير!
نظر الابن إليه ونظر إلى ذراعيه المفرودتين وتذكر أنه لم يستوحش أباه بذلك القدر من العناق الكبير. نعم إنه يريد أن يقبله أو يكلمه ولكنه مازال بلا شوق لعناقه. إن أباه ينظر إليه مبتسما فاردا ذراعيه فماذا يفعل سوى أن لا يخذله ويعطيه تلك اللحظة التى يتمناها حتى لو لم يشعر هو بها. فاستحضر جميع العناقات الأبوية فى كل الأفلام العربية "وعاش الدور" وابتسم ابتسامة واسعة طفولية واسعة وصاح:"باباااااا" واعتصره فى عناق شديد ضحك له أبوه والحضور جميعا. عرف أنه قد أتقن دور الابن المستوحش وأنه أسعد أباه القادم من السفر مستوحشا أبناءه وزوجته وبيته وبلدته.
المرة الأخرى التى قدم فيها أباه كان فى تابوته ليدفن فى بلدته بعد غياب سنة كان ذلك العناق هو آخر عناق له مع والده.
الآن يبكى بكاء شديدا حزنا على فقدان والده لم يحتج ذلك أن يتذكر بكاء أطفال على موت والديهم فالحزن حاضر يعتصره.
الحزن يعانقه معتصرا إياه عناق المستوحش أو لنقل عناق من لا حيلة له فى مساعدة هذا الإنسان!!
هو الآن يرى كل عناق يساوى الدنيا ومافيها يساوى الأب الذى افتقده.
يحدث نفسه:ليتنى ماتركت عناقه أبدا.
ليت أباه رضى برغيف العيش الذى أعطاه له بدلا من "لقمة" عيش أخيرة فى الغربة.
وليته أدرك حينها معنى عناق الأب.
الشئ الوحيد المهم أنه أدخل السرور على قلب أبيه تلك اللحظة بذلك العناق المسرحى!!!
ها هو يرى أصدقاءه يحكون له أنهم لا يحبون عناق والديهم!!! ينفجر فى وجوههم:احمدوا الله على نعمته. فيسكتون مدركين معنى ذلك لديه.
ها هو يرى أباه فى الأحلام قادم من السفر وفى تلك الأحلام لم يكن يمثل مسرحية العناق بل كان يعانقه بكل مالديه من قوة طفل صغير وأبوه يبتسم له قائلا:لا عليك يا ولدى أعرف حبك. . . . .أعرف حبك